فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.موعظة:

قال صاحب روح البيان:
ينبغي للعاقل أن يحسن الظن بربه، ولا يتكاسل في باب العبادة فإن السفينة لا تجري على اليبس.
وعن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: دخلت جبانة البصرة فإذا أنا بسعدون المجنون فقلت: كيف حالك وكيف أنت؟ قال: يا مالك كيف يكون حال من أمسى وأصبح يريد سفرًا بعيدًا بلا أهبة ولا زاد، ويقدم على رب عدل حاكم بين العباد، ثم بكى بكاء شديدًا، فقلت ما يبكيك؟ قال: والله ما بكيت حرصًا على الدنيا ولا جزعًا من الموت والبلى لكن بكيت ليوم مضى من عمري لا يحسن فيه عمل أبكاني والله قلة الزاد وبعد المفازة والعقبة الكؤود ولا أدري بعد ذلك أصير إلى الجنة أم إلى النار؟ فسمعت منه كلام حكمة فقلت: إن الناس يزعمون أنك مجنون، فقال: وأنت اغتررت بما اغتر به بنو إسرائيل زعم الناس أني مجنون وما بي جنة ولكن حب مولاي قد خالط قلبي وأحشائي وجرى بين لحمي ودمي وعظامي فأنا والله من حبه هائم مشغوف، فقلت: يا سعدون فلِمَ لا تجالس الناس وتخالطهم فأنشأ يقول:
كن من الناس جانبا ** وارض بالله صاحبا

قلّبِ الناس كيف شئـ ** ـت تجدهم عقاربا

كذا في روض الرياحين لليافعي. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} الآية.
قال الواحديُّ: وأكثر أهل اللغة على أنَّ: التَّأذُّن بمعنى الإيذان، وهو الإعلامُ.
قال الفارسي: آذَنَ أعْلَمَ، وأذَّنَ نادى وصاح للإعلام، ومنه قوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} [الأعراف: 44].
قال: وبعض العرب يُجْرِي آذَنْتُ مجرى تَأذَّنْتُ فيجعل آذَانَ وتَأذَّنَ بمعنى فإذا كان أذَّنَ أعلم في لغة بعضهم، ف أذَّنَ تفعَّل من هذا.
وقيل: معناه: حَتَّمَ وأوْجبَ وهو معنى قول مجاهد: أمر ربك، وقول عطاء: حكم ربّك.
وقال الزمخشري: {تأذَّن} عزم ربك، وهو تفعَّل من الإيذانِ وهو الإعلامُ؛ لأنَّ العازمَ على الأمر يُحدِّثُ به نفسه ويؤذنها بفعله، وأجري مُجْرَى فعل القسم كـ: عَلِمَ الله، وشَهِدَ الله، ولذلك أجيب بما يجابُ به القسم وهو: {لَيَبْعَثَنَّ}.
وقال الطبريُّ وغيره {تَأذَّنَ} معناه أعْلَمَ، وهو قلقٌ من جهة التصريف، إذ نسبةُ {تأذَّنَ} إلى الفاعل غيرُ نسبة أعْلَمَ، وبين ذلك فرقٌ من التعدي وغيره.
وقال ابن عباس: تأذَّنَ ربُّك قال ربُّكَ.
قوله: {إلى يَوْمِ القيامة} فيه وجهان:
أصحهما: أنَّهُ متعلقٌ بـ: لِيَبَعْثَنَّ.
والثاني: أنَّهُ متعلقٌ بـ: تَأذَّنَ نقله أبو البقاء، ولا جائزٌ أن يتلعق بـ: يَسُومُهُمْ؛ لأن {مَنْ} إمَّا موصولةٌ، وإمَّا موصوفةٌ، والصلةُ والصفة لا يعملان فيما قبل الموصول والموصوف. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)}.
إذا الحقُّ سبحانه أمضى سُنَتَه بالإنذار وتقديم التعريف بما يستحقه كلُّ أحد على ما يحصل منه من الآثار إبداءٌ للعذر- وإنْ جلت رتبته عن كل عذر- فإِنْ يَنْجَعْ فيهم القولُ وإلا دَمَّرَ عليهم بالعذاب. اهـ.

.تفسير الآية رقم (168):

قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر سبحانه بالتأذن، كان كأنه قيل: فأسرعنا في عقابهم بذنوبهم وبعثنا عليهم من سامهم سوء العذاب بالقتل والسبي، فعطف عليه قوله: {وقطعناهم} أي بسبب ما حصل لهم من السبي المترتب على العذاب بما لنا من العظمة تقطيعًا كثيرًا بأن أكثرنًا تفريقهم {في الأرض} حال كونهم {أممًا} يتبع بعضهم بعضًا، فصار في كل بلدة قليل منهم ليست لهم شوكة ولا يدفعون عن أنفسهم ظلمًا.
ولما كان كأنه قيل: فهل أطبقوا بعد هذا العذاب على الخير؟ قيل: لا، بل فرقتهم الأديان نحو فرقة الأبدان {منهم الصالحون} أي الذين ثبتوا على دينهم إلى أن جاء الناسخ له فتبعوه امتثالًا لدعوة كتابهم {ومنهم دون ذلك} أي بالفسق تارة وبالكفر أخرى {وبلوناهم} أي عاملناهم معاملة المبتلى ليظهر للناس ما نحن به منهم عالمون {بالحسنات} أي النعم {والسيئات} أي النقم {لعلهم يرجعون} أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن غيه رغبة أو رهبة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن قوله: {وقطعناهم} أحد ما يدل على أن الذي تقدم من قوله: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 167] المراد جملة اليهود، ومعنى {قطعناهم} أي فرقناهم تفريقًا شديدًا.
فلذلك قال بعده: {فِي الأرض أُمَمًا} وظاهر ذلك أنه لا أرض مسكونة إلا ومنهم فيها أمة، وهذا هو الغالب من حال اليهود، ومعنى قطعناهم، فإنه قلما يوجد بلد إلا وفيه طائفة منهم.
ثم قال: {مّنْهُمُ الصالحون} قيل المراد القوم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام لأنه كان فيهم أمة يهدون بالحق.
وقال ابن عباس ومجاهد: يريد الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وقوله: {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} أي ومنهم قوم دون ذلك، والمراد من أقام على اليهودية.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون قوله: {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} من يكون صالحًا إلا أن صلاحه كان دون صلاح الأولين لأن ذلك إلى الظاهر أقرب.
قلنا: أن قوله بعد ذلك: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يدل على أن المراد بذلك من ثبت على اليهودية وخرج من الصلاح.
أما قوله: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} أي عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بالحسنات، وهي النعم والخصب والعافية، والسيئات هي الجدب والشدائد، قال أهل المعاني: وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة، أما النعم فلأجل الترغيب، وأما النقم فلأجل الترهيب.
وقوله: {يَرْجِعُونَ} يريد كي يتوبوا. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وقطعناهم} أي فرقناهم {فِي الأرض أُمَمًا} أي فرقًا {مّنْهُمُ الصالحون} أي المؤمنون وهم مؤمنو أهل الكتاب.
ويقال: هم الذين وراء رمل عالج {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} وهم الكفار منهم {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} يعني: اختبرناهم بالخصب والجدوبة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} من الكفر إلى الإيمان. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا...} أي فرقناهم فيها فرقًا. وفي تفريقهم فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: زيادة في الانتقام منهم.
والثاني: ليذهب تعاونهم.
والثالث: ليتميز الصالح من المفسر لقوله تعالى: {مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دَونَ ذَلِكَ} ثم قال: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: بالثواب والعقاب.
والثاني: بالنعم والنقم. والثالث: بالخصب والجدب. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وقطعناهم} معناه فرقناهم في الأرض، قال الطبري عن جماعة من المفسرين: ما في الأرض بقعة إلا وفيها معشر من اليهود، والظاهر في المشار إليهم في هذه الآية أنهم الذين بعد سليمان وقت زوال ملكهم، والظاهر أنه قبل مدة عيسى عليه السلام لأنه لم يكن فيهم صالح بعد كفرهم بعيسى صلى الله عليه وسلم، وفي التواريخ في هذا الفصل روايات مضطربة، و{الصالحون} و{دون ذلك} ألفاظ محتملة أن يدعها صلاح الإيمان ف {دون} بمعنى غير يراد بها الكفرة، وإن أريد بالصلاح العبادة والخير وتوابع الإيمان ف {دون ذلك} يحتمل أن يكون في مؤمنين، و{بلوناهم} معناه امتحناهم، و{الحسنات} الصحة والرخاء ونحو هذا مما هو بحسب رأي ابن آدم ونظره، و{السيئات} مقابلات هذه، وقوله: {لعلهم} أي بحسب رأيكم لو شاهدتم ذلك، والمعنى لعلهم يرجعون إلى الطاعة ويتوبون من المعصية. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وقطَّعناهم في الأرض أُممًا}.
قال أبو عبيدة: فرَّقناهم فِرقًا.
قال ابن عباس: هم اليهود، ليس من بلد إلا وفيه منهم طائفة.
وقال مقاتل: هم بنو إسرائيل.
وقيل: معناه: شتات أمرهم وافتراق كلمتهم.
{منهم الصالحون} وهم المؤمنون بعيسى ومحمد عليهما السلام.
{ومنهم دون ذلك} وهم الكفار.
وقال ابن جرير: إنما كانوا على هذه الصفة قبل أن يُبعث عيسى، وقبل ارتدادهم.
قوله تعالى: {وبلوناهم} أي: اختبرناهم {بالحسنات} وهي: الخير، والخصب، والعافية، {والسيئات} وهي: الجدب، والشر، والشدائد؛ فالحسنات والسيئات تحث على الطاعة، أما النعم فطلب الازدياد منها، وخوف زوالها، والنقمُ فلكشفها، والسلامة منها.
{لعلهم يرجعون} أي: لكي يتوبوا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَمًا} أي فرّقناهم في البلاد.
أراد به تشتيت أمرهم، فلم تُجمع لهم كلمة.
{مِّنْهُمُ الصالحون} رفع على الابتداء.
والمراد من آمن بمحمد عليه السلام، ومن لم يبدّل منهم ومات قبل نسخ شرع موسى.
أو هم الذين وراء الصين؛ كما سبق.
{وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} منصوب على الظرف.
قال النحاس: ولا نعلم أحدًا رفعه.
والمراد الكفار منهم.
{وَبَلَوْنَاهُمْ} أي اختبرناهم.
{بالحسنات} أي بالخصْب والعافية.
{والسيئات} أي الجدب والشدائد.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ليرجعوا عن كفرهم. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {وقطعناهم في الأرض أممًا} يعني وفرقنا بني إسرائيل في الأرض جماعات متفرقة فلا تجد بلدًا وفيه من اليهود طائفة وجماعة، قال ابن عباس: كل أرض يدخلها قوم من اليهود {منهم الصالحون} يعني من هؤلاء الذين وصفهم الله من بني إسرائيل صالحون وهم من آمن بالله ورسوله وثبت منهم على دينه قبل مبعث عيسى وإنما وصفهم بذلك قبل ارتدادهم عن دينهم وكفرهم بربهم ذكره الطبري ولم يذكر غيره، وروى البغوي وغيره من المفسرين عن ابن عباس ومجاهد: إن المراد بالصالحين الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود وآمنوا به والصحيح ما ذكره الطبري يدل عليه قوله بعد فخلف من بعدهم خلف من بعدهم خلف والخلف إنما كان بعد هؤلاء الذين وصفهم بالصلاح من بني إسرائيل.
وقوله تعالى: {ومنهم دون ذلك} يعني الذين كفروا من بني إسرائيل وبدلوا وغيروا {وبلوناهم} يعني جميعًا الصالح وغيره وهي بلوى اختبار وامتحان {بالحسنات} يعني الخصب والعافية {والسيئات} يعني الجدب والشدة {لعلهم يرجعون} يعني لكي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا إليه.
قال أهل المعاني: كل واحدة من الحسنات والسيئات إذا فسرت بالنعم والشدة تدعو إلى طاعة الله تعالى أما النعمة فيزداد عليها شكرًا فيرغب في الطاعة وأما الشدة فيخاف سوء عاقبتها فيرهب منها. اهـ.